الأربعاء، 2 جوان 2010
الخامسة
مضت بضعة أسابيع منذ ان اشترك بخدمة التدفق العالي للأنترنات...

طلب منهم أن يضعوا له جهاز حاسوب على مكتبه في العمل، اقترحوا عليه قبلا أن يكون له حاسوبه الخاص لكنه رفض ... ليس هناك ما يستدعي وجود مثل ذلك الجهاز في مكتبه، هناك ملفات و أوراق أهم شأنا من هذه الكماليات... لكن المرحلة الحالية أصبحت تقتضي وجود حاسوب أخذ حيّزا لا بأس به من مساحة المكتب، حتى انه إلى جانب ما يوجد فوقه من اكسسوارات، كان و لازال غير مقتنع بأي جدوى من وجودها، أصبح يستعصي عليه ايجاد مساحة كافية لكتابة تقرير ما في أريحية

أصبح على قناعة أيضا ان مردوده في العمل في تناقص ملحوظ، و ان لم يكن احد ليلحظ ذلك سواه، إلا أنه يشعر بتأنيب ضمير يولّد لديه شعورا بعدم الرضا عن نفسه... و لكنه رغم ذلك يواصل على نفس النسق

أصبح يتذمّر من روتينية العمل، كل الأيام أصبحت لديه متشابهة... اشتاق لتلك الايام التي كان ينغمس فيها في العمل لدرجة تجعله يضطرّ في بعض الاحيان يلازم مكتبه اوقات الغذاء، انخفاض مردوده جعله يلتزم بمواعيد القدوم و الانصراف، أصبح يخجل من مرؤوسيه الذين أصبحوا هم بدوره يلومونه على تاخّره... كان على يقين أن تفانيه في العمل هو الذي كان يجعلهم يغضّون الطرف عن تاخره الدائم عن الدوام، كما هو على يقين الآن ان استهتاره هو الذي يجعلهم يعاملونه كغيره من زملائه، الذين كان يراهم قبلا مستهترين... صار مثلهم الآن

تشغل كل هذه التطورات باله بل حتى انها تؤرقه و تقضّ مضجعه في احيان عديدة... و رغم ذلك يجد نفسه مواصلا على نفس الوتيرة

يجلس على مكتبه في الموعد المحدد... يفتح الحاسوب، أصبحت لديه قائمة من المواقع المفضلة في متصفح الانترنات، يستعمل نفس المتصفح في العمل و المنزل على حد السواء، و قائمة المفضلة تقريبا هي نفسها ايضا... يسارع بفتح إحدى الإذاعات المحلّية، تذيع بعض الأغاني الهادئة خلال الفترة الصباحية.

لا بد ان تكون فيروز حاضرة، ان لم يكن بأغنية فبأغنيتين... يعشق فيروز، تذكّره بفترة الدراسة الجامعية، و المبيت... تعرّف على فيروز خلال سنوات المبيت، كانت رفيقة درب الجميع خلال الفترة الصباحية حيث يستعد أولئك المواظبون الذين يقصدون الجامعة منذ الفترات الصباحية الاولى للانصراف... لازمته فيروز أيضا خلال فترات التحضير للامتحانات.

كان يمنّي النفس بالتخرج، ثم العمل... سيسكن وحيدا، لن يكون له شريك في السّكن، سيفيق على صوت فيروز و سترافقه عند أول سيجارة يشعلها أثناء
تحضيره لفنجان القهوة الذي سيشربه قبل ان يستعد للانصراف... ستكون له سيارة ايضا، و سترافقه فيروز خلال طريقه إلى العمل.

لم يخب امله، تخرّج سريعا، و لم تدم فترة بطالته إذ سرعان ما التحق بالعمل باحدى المؤسسات التي سبق له ان تربّص بها خلال دراسته الجامعية... كان وحيدا في السكن كما اراد، يسمح له مرتّبه بذلك، اشترى جهاز استيريو ذو أبواق كبيرة الحجم، قال له البائع أن صوتها ثلاثي الأبعاد، كان ذلك مدوّنا على العلبة أيضا، لكنه لم يصدّق المعلومة إلا حين أكّدها له زميله الذي رافقه أثناء عملية الشراء، كما اكد له ان السعر مناسب مقارنة بنوعية السلعة، يرغب دائما في رفقة خلال أي عملية شراء... اشترى بعض الاسطوانات الليزرية لفيروز، اشترى معظم اسطواناتها التي وجدها بالمحل

لم يفتح سوى بعض الأسطوانات، و لم يستمع البتة لفيروز صباحا، و لا حتى مساء... حتى تلك الاسطوانات التي فتحها، كان ذلك فقط بدافع الفضول و على سبيل التجربة ليس إلا... حتى بعد اشتراءه للسيارة، وضع بها العديد من تلك الاسطوانات، و مازال معظمها محافظا على غلافه البلاستيكي لم يفتح بعد.

أصبح الآن يستمع لتلك الأغاني التي تبثها الموزاييك صباحا، و ان لم يكن على اتفاق مع ذوق من اختارها الا انه يواصل الاستماع كل صباح... ثم يقوم بجولة على الصحف الوطنية، يقرأ ما ساتجد على صفحاتها، بعض تلك الجرائد يجدها احيانا على سطح مكتبه، لم يفتح جريدة يوما منذ ان انتقل الى هذا المكتب... كان ينهمك في عمله منذ اللحظة الاولى لجلوسه إلى حين نهوضه، اما الآن فقد أصبح يجد متعة في قراءة الخبر على موقع الصحيفة ثم اعادة قراءته على صفحاتها المورّقة... يحس بفخر كبير حين يكتشف بعض التحويرات الطفيفة التي لا يكتشفها إلا أولئك الذين يتمتعون بدقة كبيرة

تمضي الفترة الصباحية و هو يراوح بين الاستمتاع بقهوته الصباحية على نغمات اغنية لا يستصيغها، لكنها اغنية جميلة بالتاكيد، ثم قراءة لأهم ما ورد على صفحات الصحف و المجلات الورقية و الالكترونية... أصبح ملما بجميع الشؤون الوطنية و حتى العالمية منها، لم يكن يوما كذلك.... كان ذلك المذيع على حق حين قال أن الانترنات قد حوّل العالم إلى قرية صغيرة... صغيرة جدا

يمضي فترة الغذاء مع زملاءه في احتجاج متواصل حول قطع المسؤول عن الشبكة لامكانية الدخول لموقع الفايسبوك... يستطيع هو الدخول إليه، ضبطه ذات مرة و هو يبحر عبر الفايسبوك، يستمتع هو بينما يعاني البقية من الحرمان

يمضي بعضا من الفترة المسائية في مواصلة الحوار الاحتجاجي مع بعض من زملائه في العمل... و بعض من العمل حتى لا تتعطّل دواليب الإدارة، و يستمرّ الحال.

كان على قناعة بتفاهة ما آل إليه أمره... و رغم ذلك يجد نفسه مجبرا على المواصلة،
دون ان يدري لذلك سببا.


0